elCinema.com

أخضر يابس مغامرة سينمائية جديدة بقلم الناقد أمير العمري

[ من صفحة أخضر يابس ]
“أخضر يابس” فيلم المخرج الشاب محمد حماد هو نتاج مغامرة سينمائية جديدة خاضتها مجموعة من الشباب بشكل مستقل تماما عن السينما السائدة خارج إطار سينما الحبكة والمواقف المصنوعة صنعا لنقل تأثير عاطفي ما.

الوحدة والهمّ والحزن والموت والفراغ والرتابة كلها نغمات وأفكار تخيم على هذا الفيلم القاتم بشخوصه ومواقفه، لكن المتميز، رغم ذلك، برقته وبراعة مخرجه في التعبير بالصورة، من خلال سيناريو يبدو كقطعة منتزعة من الواقع، من الحياة التي نعرفها ولا نراها، أو لا نريد أن نراها كأن حركة الزمن توقفت وأصبح محكوما على بطلته الشابة التي شاخت قبل الأوان بالموت المبكر. ومن هنا جاء عنوان الفيلم.

في اللقطة الأولى من الفيلم نرى “إيمان” تروي النباتات الجافة في شرفة الشقة القديمة التي تقيم فيها مع شقيقتها بعد رحيل الأب والأم والشقيق الصغير أيضا. لا نعرف بالضبط كيف حدث هذا، لكنه ليس مهما، فالمهم أن إيمان أصبحت تواجه الآن حياتها الجافة وحدها تقريبا ترعى شقيقتها الصغرى “نهى” التي مازالت تذهب إلى المدرسة ومع ذلك فهي تتأهب للخطوبة على أن تتزوج بعد أن ينتهي عريسها المنتظر (الذي لا نراه) من دراسته.
فيلم بديع من ناحية البلاغة في التعبير بالصورة بأقل قدر من الكلمات، محاولة نقل إيقاع الحياة اليومية كما يعيشها البشر وليس كما يتخيلها المتفرج.
لقد أصبحت “إيمان” بمثابة الأب والأم بالنسبة إلى شقيقتها الصغرى. تتوقف الكاميرا طويلا أمام إيمان وهي تتطلع إلى النباتات الجافة وبينها زهرة الصبار التي تستخدم في الفيلم ضمن مجموعة أخرى من الرموز. وعلى الفور ننتقل من الداخل إلى الخارج، إلى إيمان داخل إحدى عربات المترو العتيق المترهل تجلس صامتة شاردة، ثم تهبط لتعبر الجسر العلوي لتهبط في الناحية الأخرى، تجرجر ذيل جلبابها، تحكم غطاء الرأس حول رأسها، تتحرك في عزم وتصميم، ولكن من دون حماس، مثل أيّ فتاة أو امرأة شابة عاملة تنتمي للطبقات التي طحنها الزمن في بلادنا.

بعد أن تخضع للفحص الطبي ثم تجري الاختبارات التي طلبها الطبيب تكشف نضوب الدورة الشهرية لديها مبكرا قبل الأوان. وعندما تتطلّع إلى حافظتها الصغيرة نلمح صورتين الأولى لأحمد ابن عمها الذي سنراه فيما بعد، وأخرى لطفل صغير هو شقيقها الغائب.

ما الذي يربطها بأحمد؟ هل تحبه؟ هل كانت مخطوبة له من قبل بدليل الخاتم الذي مازالت تحتفظ به في علبة تجمع فيها أشياءها الثمينة؟ الفيلم لا يميل إلى تفسير كل شيء عن طريق الشروح الكثيرة والحوارات المرهقة، بل يكتفي بالإشارات الضمنية داخل السياق وعلى المشاهد أن يربط بينها ويصل إلى استنتاجاته الخاصة.

فيلم أخضر يابس تجربة شجاعة قدمها أساسا ثلاثة مبدعين هم محمد حماد ومحمد الشرقاوي وخلود سعد، مع باقي العناصر الفنية، ولا شك أن استمتاعهم جميعا بالعمل معا انعكس بشكل إيجابي على الفيلم
تحصر الكاميرا إيمان في لقطات قريبة تركّز على نظراتها الطويلة الصامتة الحزينة الغامضة التي تعكس شعورا داخليا بالجفاف وبالموت البطيء، وبين وقت وآخر نشاهد السلحفاة التي تحتفظ بها إيمان في مسكنها تارة تزحف، ربما بحثا عن شيء تأكله، وتارة أخرى نراها مقلوبة على ظهرها، تحاول جاهدة أن تعتدل وتكرر المحاولة كثيرا ولكن دون جدوى، كما لو كان هذا قدرها. هذه السلحفاة تقع أيضا ضمن رموز الفيلم المتعددة.

الجفاف الروحي

فكرة البحث عن أحد أعمامها لحضور خطوبة شقيقتها الصغرى يبدو كأنه قدر مكتوب على إيمان، إنها تستنكر دورها وتحاول التمرد على القيام بهذا الدور-دور الأم- لكنها تجد نفسها مرغمة على استكماله على نحو قدري، فالقدر في الفيلم وجوده ملحوظ وقوي، فكل شيء يخضع لدائرة مرسومة مسبقا لا يبدو أن هناك فكاكا منها.

الشخصيات التي نراها فاقدة للقدرة على الفعل وعلى الحركة وعلى الخروج من المأزق وعلى مغادرة حالة الجفاف الروحي والعقم والتدهور. والجفاف ملحوظ في كل ما نشاهده، في تفاصيل الصورة وفي أعماقها: المباني المتداعية، جدران الشقة التي أصبحت بالية ضعيفة لم تعد تقبل المسامير وبالتالي تبقى الشقة عارية من الستائر التي يمكن أن تعطي قيمة جمالية مفترضة طبقا لمفاهيم البورجوازية الصغيرة التي تنتمي لها الفتاتان، مع الإلحاح على فكرة ضرورة وجود “رجل العائلة” في استقبال العريس وأسرته وقت الخطوبة.

أما رمزية التفاصيل المتمثلة في الأزهار الجافة، السلحفاة، الجفاف المبكر للدورة الشهرية، القطارات التي تتحرك بطول الفيلم، لا تتوقف عن المرور أمام شرفة الشقة ونافذة غرفة ايمان، تقطع الصمت، تصنع فواصل وتضفي على شريط الصوت نغمة رتيبة رتابة الحياة التي تعيشها إيمان التي تنتقل من مكان إلى آخر، ولكنها تظل داخل الدائرة المفرغة. فهي تخرج لتعمل ولتبحث عن حل لموضوع خطبة شقيقتها، ثم تعود إلى الشقة المظلمة، بل نراها في أحد المشاهد وهي تغلق نافذة الغرفة لتحجب ضوء النهار تماما ثم تغلق باب الغرفة عليها وتأوي إلى فراشها مبكرا. وكأنها تدخل بإرادتها قبرها.

زواج الشقيقة الصغرى هل سيتم؟ لا شيء يبدو أنه سيكتمل في هذا الفيلم فهو ليس من أفلام “الحبكة” المغلقة بل ينتهي نهاية مفتوحة. “إيمان” محكوم عليها بالدوران في دائرة عمل ممل مرهق مع غياب الصحبة والرفيق وعلاقة محدودة هامشية بالعالم وبالرجل، وهي قد كفت عن أيّ محاولة للتواصل وأغلقت على نفسها جميع الأبواب.

أعمام الفتاة جميعهم يتذرعون بأيّ ذريعة لعدم القيام بما يفترض أن يكون “الواجب”، فالأول تقنعه زوجته بعدم التورط في ما لا يعلمون عنه شيئا خشية من عاقبة ما يحدث فيما بعد في حالة فشل الخطوبة، والثاني ليس لديه وقت لأنه سيغادر البلاد عائدا إلى البلد الخليجي الذي يعمل فيه، والثالث الذي يوافق يشتد المرض عليه فيمنعه من الوفاء بوعده.

قطارات عتيقة متهالكة تواصل مساراتها فوق قضبان حديدية لا تتغير مع مرور الزمن. حياة إيمان مع شقيقتها وباقي شخصيات الفيلم ومواقفه كلها “عادية” أي أنها شخصيات لا تمتلك أيّ سمات خاصة تجعلها تختلف عن غيرها كما أن ما تمر به من مواقف هي أيضا “عادية” أي تقع في الحياة اليومية.

إيمان تسعى لإقناع أحد أعمامها بحضور خطوبة شقيقتها

عادية الأشياء

إيمان (الفتاة المحجبة العادية التي نراها بالملايين يوميا) التي تسكن في حي شعبي (مألوف) وتعمل في مهنة (مألوفة عادية)، تنصت باهتمام إلى القرآن الكريم وأحاديث الدعاة كما يفعل الملايين مثلها، تعيش حياة “عادية” لكن من داخل هذه السمة العادية أو الاعتيادية المألوفة تحديدا يستمد الفيلم قيمته وتميزه بل وسحره، فهذه السمة “المألوفة” تجعل من الفيلم من الناحية الفنية عملا “غير عادي” فهو يكشف لنا من خلال ذلك “العادي” ما لا نراه عادة من حولنا.

والفيلم كله يسير في هذا الإطار أي إطار “الأشياء العادية”. خذ مثلا المشهد الذي نرى فيه إيمان داخل محل الحلوى تتحدث هاتفيا لتطلب من المخبز تزويد المحل ببعض الحلوى ثم تلمح زبونا بدينا يدلف من الباب. إنها وحدها في المحل. يقترب الرجل ويطلب بعض الحلوى. يتطلع إليها… تنظر هي إليه في ترقب.

والمتفرج المعتاد على أفلام المفاجآت لا بد أنه يتوقع أن يحدث شيء ما “غير عادي” هنا، كأن يعتدي الرجل عليها مثلا أو يسرق شيئا أو يأخذ الحلوى ويهرب دون أن يدفع الثمن، لكن المشهد الذي نراه في زمنه الواقعي بكل تفاصيله بما في ذلك اختيار أنواع الحلوى ورصها في العلبة ثم ربط العلبة بشريط… إلخ يسير بشكل عادي، وينتهي نهاية عادية أي بأن يدفع الرجل ثمن ما اشتراه ثم ينصرف.

هنا قد يتساءل البعض: هل هذا المشهد ضروري؟ ألم يكن من الأفضل استبعاده من الفيلم؟ والإجابة أنه جزء عضوي من بناء الشخصية وبناء الفيلم، فهو يأتي في إطار تجسيد تلك السمة “العادية” التي تريد أن يشعر المشاهد بإيقاع الحياة من خلال التفاصيل الصغيرة العادية، لذلك يمكن القول إن كل شيء في هذا الفيلم موجود في موضعه تماما وليس من الممكن استبعاد أي لقطة من اللقطات وهذا شأن الأعمال الفنية الحقيقية كاللوحات التشكيلية.

يصنع المخرج الشاب محمد حماد فيلمه من لحظات الصمت الطويل ومن اللقطات القريبة والقريبة جدا للوجه وللعينين ولليدين ومن اللقطات الطويلة التي تحصر وجه بطلتنا الشابة العجوز “إيمان” أو تتابعها خلال تحركها في الفضاء الخارجي، تتوقف أمام نظراتها الحزينة الهائمة التي تحدق في الفراغ.

كما يهتم كثيرا بالتكوينات التي تعكس الطبيعة القاتمة للشقة وللشوارع الضيقة وللبيوت المتلاصقة المتداعية التي توحي بأجواء المقابر، إضافة إلى الليل الذي يعقبه النهار والنهار الذي لا ينطق بالحقيقة والضوء الذي لا يغير أو يكشف شيئا. إنها رؤية واقعية محملة بالرموز، رؤية تنقل للمشاهد حالة نفسية واجتماعية تجسد ما وصلت إليه تلك الطبقة من جفاف قاتل وعجز.

معالم الأسلوب

يتوقف الفيلم من خلال التفاصيل أمام تلك الاهتمامات والمشاغل العادية الصغيرة التي تحيط بحياة هذه الشخصيات الهامشية دون أن تتيح لها الفرصة لأن تتأمل نفسها من الداخل، وعندما تفعل فإنها ترتكب فعلا عنيفا يفض غلاف الجفاف وربما يفتك أيضا بالعذرية التي أصبحت لعنة. عالم الفيلم يعكس البطء والانغلاق على الذات والتزمت في الشكل وفي السلوك ومحاولة التشبث بتقاليد قد تبدو وسط هذه “الحالة” عبثية لا معنى لها.

الشقيقتان في لقطة تؤكد هيمنة الأولى في المقدمة
إننا أمام فيلم بديع من ناحية البلاغة في التعبير بالصورة بأقل قدر من الكلمات، محاولة نقل إيقاع الحياة اليومية كما يعيشها البشر وليس كما يتخيلها المتفرج وهو إيقاع مدهش رغم رتابته وعاديته. وتبدو الشخصيات وكأنها في مرحلة انتظار أن يقع شيء يغير حياتها… لكنها لا تسعى إليه بل تظل تدور في إطار حياتها التي تحكمها قوانين وأقدار أكبر منها. المخرج يراقب هذه الشخصيات خلسة بالكاميرا يتتبعها ويريد أن يقتحم أرواحها، وبوجه خاص، روح بطلته المنكسرة الحزينة التي تعاني في صمت من عدم التحقق وغياب الأمل.

يبتعد محمد حماد في فيلمه عن استخدام الكلمات الكبيرة كما يتجنب تماما الوقوع في شباك الميلودراما ومحاولة استدرار الدموع ليبقي على مسافة بين المتفرج وما يشاهده على الشاشة، مسافة تسمح بالتأمل وبإقامة علاقة ذهنية لا تخلو من المشاعر مع الشخصيات التي لا تنقسم أبدا إلى شخصيات شريرة وأخرى طيبة، فهي فقط شخصيات “طبيعية” أو “عادية” نعرفها ونرى في كل منها شيئا من أنفسنا ونتعاطف معها جميعا ونفهمها حتى لو لم نتقبل سلبيتها واستسلامها ونعرف أن وراءها ميراثا هائلا من القهر.

عن الصورة

من ضمن المعالم البارزة في هذا الفيلم التصوير الذي يعتمد تماما على المصادر الطبيعية للضوء والاستفادة من كل تفاصيل المكان وتجسيد الظلمة والشعور بالانقباض والتركيز على علاقة الشخصيات بالمكان والاختيار الموفق لمجموعة الممثلين والممثلات جميعا، وبوجه خاص، بطلة الفيلم الممثلة المدهشة هبة علي التي تبدو متلائمة تماما مع دور “إيمان”. إنها تعبر بنظراتها وصوتها وتفاعلها مع الممثلين الآخرين وهي داخل محل الحلوى وجالسة داخل عربة القطار كأنها ستنتظر إلى الأبد التعبير عن شعورها بالحزن والانكسار واليأس من دون أيّ تعبير خارجي متشنج ودون أن تتغير نبرات صوتها كثيرا لتخرج عن طابع التحفظ والإيجاز. فهي تعبر من خلال الصمت ونظرات الوجه أقوى كثيرا مما يمكن أن تعبر بالكلمات.

ولا شك أن الوجود القوي لعنصر التمثيل في الفيلم من أول ممثل وهو أحمد العايدي الذي قام بدور الطبيب بشكل مقنع تماما إلى ممثلي دور الأعمام الثلاثة (أحمد حماد، إكرام حنا، نبيل سامي) إلى صاحب محل الحلوى (سعد عامر) والشقيقة الصغرى “نهى” (أسماء فوزي) وجون إكران في دور “أحمد” الحاضر الغائب، فقد كانوا جميعا يتفاعلون مع بعضهم البعض بشكل طبيعي شديد البساطة والإقناع.

فيلم “أخضر يابس” تجربة شجاعة قدمها أساسا ثلاثة مبدعين هم محمد حماد ومحمد الشرقاوي وخلود سعد، مع باقي العناصر الفنية، ولا شك أن استمتاعهم جميعا بالعمل معا انعكس بشكل إيجابي على الفيلم.