elCinema.com

أخضر يابس: هل تصبح العالمية هي الطريق للمحلية؟

[ من صفحة أخضر يابس ]
(مقال بقلم السيناريست “تامر عبد الحميد” تم نشره في موقع مدى مصر)
بداية، أعترف بتحيُّزي التام لفيلم «أخضر يابس» الذي كتبه وأخرجه محمد حماد، كما أنتجه بالشراكة مع زوجته وأصدقائه، تحيُّزٌ ليس منشؤه الوحيد هو أنني أحد المشاركين – مشاركة بسيطة متواضعة – في صناعة الفيلم، بل ينبع من تحيُّزي لهذا الشكل من صناعة الأفلام، ولهذه الطريقة التي ينتهجها جيل كامل من السينمائيين المصريين المخلصين لهذا الفن، والذين يمتلكون – بحق – ما يريدون قوله.

بناء على ما سبق، فهذا ليس مقالًا نقديًا، ولا يتعرض للجوانب الفنية في فيلم «أخضر يابس» بقدر ما يتناول إشكالية صناعة فيلم خارج حظيرة السينما التجارية، دون أن يتحول الفيلم إلى تجربة فنية عابرة، ودون أن يكتفي بالتعبير عن الهواجس شديدة الخصوصية لمبدعه، فينقطع التواصل بين القطاع الأكبر من الجمهور وبين الفيلم الذي سرعان ما ينزوي في ركن «أفلام المتخصصين».

في هذا الفيلم، يختار محمد حماد بعناية قصة بسيطة واضحة لبطلته إيمان، لا تهويمات ولا دلالات متخفيَّة بتعمد، وإنما الولاء الأول والأخير هو للشخصية وللدراما التي تؤثر فيها وتتأثر بها. هذا الإخلاص في الحكي هو ما جعل الفيلم، رغم بساطته، مشبَّعا بالدلالات التي تتولد تلقائيًا دون إقحامها في صٌلب التناول بلا ضرورة؛ امرأة مصرية تشبه قطاعًا عريضًا من النساء في مصر وبالتأكيد في غيرها، تمر بظرف ليس استثنائيًا ولا غرائبيًا، فهي تبحث عن عم من أعمامها ليقابل العريس الذي سيتقدم لأختها الصغرى، لأنهما تعيشان وحدهما بعد وفاة الأب والأم، في رحلة بسيطة واضحة، يقدم حماد من خلالها رؤيته للمجتمع من خلال ملاحقته لبطلته، في تشريح هادئ وإيقاع تأملي لا يخلو من توتر دفين وتصاعد مستمر.

هذا فيلم لا يتعالى على الجمهور، ولا يعاني من تخمة الأفكار ولا من ضبابية الطرح، ولكن الأهم من وجهة نظري، هو ذلك الوعي الكامن وراء اختيار القصة، فمنذ البداية يعرف حماد أنه سينتج هذا الفيلم ذاتيًا، ولذا كان كل من نسج القصة وخيوطها وحبكتها وتصاعدها متلائمًا مع ما سيأتي بعد ذلك من مراحل إنتاجية.

وتماما كما مرت بطلة «أخضر يابس» بمعاناة في رحلتها لتحقيق منجز بسيط، عانى حماد ورفاقه ليصنعوا فيلمهم، لتصبح رحلة إيمان التي تقاوم وحدتها وتقدمها البطيء في العمر وولوجها مرحلة حرجة كامرأة وظروفها الشخصية وقلقها على صحتها، حاملةً على كتفيها ماضيها البائس ومنطلقةً للمستقبل المجهول عبر حاضر راكد، وكأنها انعكاس لرحلة حماد نفسه مع صناعة الأفلام، رحلة شاقة ومرهقة، فقط لأنه اختار منذ البداية أن يصنع أفلامه بطريقته.

من الصعب في زماننا ومكاننا الحاليين أن تصنع فيلمًا يخلص للفن كما يخلص للجمهور كذلك، بمعنى أن تحترمه دون أن تُدخِل في حساباتك منطق السوق وشروطه التي توجِّه الصانع قبل أن يفكر، وتفرض عليه أنماطًا وقوالب جاهزة ومعلبة. ولذا لم يكن من السهل أن يجد حماد منتجًا – بالمعنى التمويلي – لفيلمه، فالمنتج/المموِّل في الأغلب لن يتحمس مطلقًا لفيلم لا يرى فيه تلك البهارات اللاذعة، بل لن يلتفت للتجربة برمتها لأنه يجد فيلمًا «مختلفًا»، وكأن بعضًا من تلك القواعد التي تميِّز العمل الفني، كـ«القدرة على الإدهاش» و«الجِدَّة» و«التمايز»، قد أصبحت عناصر منفِّرة لمن يبحث عن إرضاء قطاع أكبر من الجمهور، هذا الجمهور الذي قلب موازين الصناعة مرارًا عندما أحب ما لم يراهن عليه المنتجون المطمئنون لخلطاتهم.

السبيل الآخر والموازي إذن هو أن تصنع فيلمك بنفسك، وهو ما فعله حماد، ولكن، هذا الطريق الآخر أقسى وأشد وعورة، فبغض النظر عن إيجاد تمويل ذاتي، وجمع الفريق المخلص المنتمي الذي يمنح تجربة كهذه ولاءه، فإن من لم يقبلوا بوجودك ضمن خلطتهم الإنتاجية، يقابلهم من لن يسمحوا لك بالتحرك بحرية خارج الخطوط المحددة سلفًا لممارسة العمل الفني، ولنا أن نتخيل أن «الفن» و«الإبداع» لهما ضوابط إدارية ورسمية!

الهروب من كمَّاشة الوصاية والتحايل على الملاحقة المستمرة لصناع الأفلام المستقلين أمر ليس بالهيِّن إطلاقًا، ولذا لم يكمن التحدي الأكبر أمام حماد وفريقه فقط في توفير النفقات اللازمة لصناعة الفيلم، بل في القدرة على صناعته أصلًا، فالظرف العام ليس مهيَّئًا لأن يعمل المبدع بحرِّيته؛ وطالما لم تعمل ضمن كيان معترف به من النظام، فلن تحصل على أية تسهيلات، وبما إن التصوير دائمًا ما يحتاج إلى «تصريح» من الجهات المانحة للإذن والمراقبة للصناعة، فإنك عندما تفعل ما تريد فلن يكتفوا بعدم التعاون معك، بل وسيطاردونك ويضيقوا الخناق عليك؛ الجهات الأمنية، والمؤسسات المعنية بصناعة السينما داخل المنظومة، بل إن المواطنين أنفسهم يتحفزون ضدك بمجرد رؤيتهم للكاميرا، فقد ترسَّخ داخل وعيهم أن من يحمل هذه الآلة، إن لم يتعرفوا إليه، فهو قطعًا مخرِّب ومندس ويريد شرًا، وهي ملاحقة أخرى من النظام لصناع الأفلام المستقلين استطاع أن ينجزها بأذرع خارجية دون أن يتورط بنفسه فيها. وأمام كل هذه الصعاب التي تتجاذبك كصانع أفلام، فلا رفاهية أمامك سوى رفاهية «الوقت» الذي ينفد تدريجيًا، وتنفد معه القدرة على الاستمرار في العمل، فما يحتاج إلى أسبوع لإنجازه في الظروف العادية قد يستغرق شهورًا في حالٍ كهذه، ولذا، فإن قدرة هذا الفريق على إكمال الفيلم والوصول به لنسخته الأخيرة هو أمر بطولي يستحق الإشادة وحده.

مغامرة مرهقة خاضها صناع هذا الفيلم، الجميع بلا استثناء كابدوا وأرهقوا، وحتى اللحظات الأخيرة كان الفيلم مهددا بألا يكتمل، ولكن… طالما لم يحدث بعد، فهم مستمرون في العمل والتحمل، لا لشي إلا لأنهم «مؤمنون» بما يفعلون.

حسنًا، الآن يجني الجميع بعض ثمار هذه الرحلة، يشارك الفيلم في مهرجانات دولية مرموقة و«مُتَطَلِّبة» تختار أفلامها بعناية فائقة، ويفعل ما لا تفعله الأفلام المصرية عادة في مثل هذه المهرجانات، ثم يحصل مؤخرًا على جائزة «أفضل إخراج» من «مهرجان دبي السينمائي» ليكون أول فيلم مصري يحصل على هذه الجائزة، وهنا يبدأ الوسط السينمائي المصري في الانتباه لهذه التجربة المتميزة التي حاربها من قبل بطرق مباشرة وغير مباشرة، ويحاول مغازلتها بأن يحتفي بصناعها أو – على الأقل – بأن يفخر بهذا الفيلم المصري المُشرِّف.

الاحتفاء الحقيقي يا سادة، يكمن في وصول الفيلم لجمهوره، هكذا تكون المغامرة قد آتت ثمارها المرجوة، وهكذا يكون الشكر لهؤلاء المخلِصين الذين تفانوا في عملهم. عمَّن يبحث الواقف على خشبة المسرح بين الجمهور الواقف لتحيته؟ إنه يبحث عن أقرب الناس إليه، هذه هي التحية التي يريدها بشغف، وهذا هو الاعتراف الأهم بالنسبة إليه. الاحتفاء الحقيقي هو بأن يتمكن الصناع من إنجاز أفلامهم بحرِّية أكبر، أن تتركوهم، وأن تفسحوا لهم المجال ليجدوا جمهورهم ويجدهم الجمهور. هناك الآلاف حول العالم يشيدون بهؤلاء السينمائيين، وأنتم تتفننون هنا في تكميم أفواههم وقطع السبل عليهم، وعندما يفلت أحدهم من قبضتكم تندهشون لأن جماهير أخرى في بقاع العالم قد أبهرتها أفلام مصرية لا تعرفون شيئًا عنها، فتشاركونهم التصفيق والانبهار.

هنا تكمن تلك المفارقة، وتبرز تلك الدلالة التي يحملها اسم فيلم حماد، فهذا المجتمع عمومًا، وقطاعه السينمائي الرسمي خصوصًا، يجعلون من التجارب المغايرة الـ«خضراء» والطازجة والمميزة، تجارب «يابسة» متحجرة. وإن لم يتغيَّر الأمر، سيظل كل فيلم ينجح فيما نجح فيه فيلم حماد وفريقه، أن يكون فيلمًا «أخضر» خارج مصر، ولكنه «يابس» داخلها.