elCinema.com

The Patience Stone

[ من صفحة فيلم : The Patience Stone ]
حَجَرُ الصَبر The Patience Stone
عندما يضع الكاتب الفرنسي الأفغاني " عتيق رحيمي " عنوان الفصل الأول من روايته ( حجر الصبر ) ، التي صدرت عام 2008 ، هكذا : ( في مكان ما من أفغانستان أو أي مكان آخر ) فإنه يفسح المجال أمام القارئ للتعميم ، و أيضاً أمام المشاهد عندما أخرج روايته سينمائياً ــ بنفسه ــ عام 2012 . ولكنه تعميم في حدود أفغانستان ، و سنلاحظ إن التعميم مكاني و ليس زمانياً ، لأن الزمن في هذه الرواية محصورٌ في عهد ( طالبان ) .
و " عتيق رحيمي " ولد عام 1962 في العاصمة الأفغانية ( كابُل ) ، ولكن بعد أن إنحدرت البلاد في مستنقع الحروب الداخلية عقب تدخل الإتحاد السوڤييتي في أفغانستان في 25 ديسمبر / كانون الأول 1979 و تدهور الأمور ، خرج " رحيمي " من بلاده عام 1984 . في تلك السنة كان في الثانية و العشرين من عمره ، و قد توجه الى فرنسا ، و فيها أكمل دراسته فحصل على الدكتوراه ، و من فرنسا انطلقت شهرته كروائي ، و قد حصلت روايته ( حجر الصبر ) على جائزة (گونكور ) ــ و هي أهم جائزة أدبية فرنسية ــ و اشتهر كمخرج سينمائي أيضاً .
ولكن " رحيمي " الذي يكتب بالفرنسية و الفارسية ، راح يزور أفغانستان بين فترة و أخرى بعد سقوط ( طالبان ) عام 2002 ، ما هيأ المناخ لخياله الأدبي و السينمائي لنتاج يرصد الحياة و إرهاصاتها على يد طالبان في أفغانستان ، و هو ما جسّده في ( حجر الصبر ) … رواية ً و فيلماً ، و في روايات أخرى .
ولكن نظراً لمحدودية الحيز المكاني ، سنجد أن الفيلم كما لو كان مقتبساً عن عمل مسرحي و ليس عن عمل روائي ، بل أن الرواية مكتوبة بصيغة السيناريو ، فبدت خصوصاً في صفحاتها الأخيرة ــ و هي في 110 صفحات بطبعتها المترجمة عن ( دار الساقي ) ــ مكتوبة بصيغة السيناريو لمسرحية . غير أن هذا ليس مهماً ، المهم هو عمق العمل ، و تمحوره بالتفاف لولبي حول فكرة وجودية تتخذ من محنة شابة في الثلاثين من عمرها محوراً لها . شابة تكافح وحدها في مجتمع تقطعت أوصاله ، و لم يعد لها ما يسندها فيه ، و فوق هذا لا هي مرتبطة بزوجها و لا هي منفكة عنه ، و هو بدوره لا هو حي و لا هو ميت ، إنه جسد بروح مخنوقة ، خنقتها رصاصة في رقبته ، شلّت حياته إثر مشاجرة مع رفيق مجاهد قال له ذات مرة ( سأبصق في فرج أمك ) ، و هي عبارة تزلزل الشرف المتمسك بتعاليم الدين ، الدين المتناقض في موقفه من المرأة ، ولكنه في النهاية ينظر إليها ككيس للذة … يُرمى بعد حين . غير أننا سنكتشف أن هذا الشرف الملتصق بالدين إن هو إلا خرقة بالية ، فأخوة الرجل كانوا يتحرشون بها ، و عندما كانت تستحم كانوا يراقبونها و يستمنون ، و عندما لم تنجب منه اعتبرتها أمه عاقراً فحرضته على الزواج من إمرأة أخرى ، و أثناء تداعياتها ترى الزوجة الشابة أنَّ ذلك يعني أنْ يكون مستقبلها شبيهاً بمستقبل عمّـتها التي كانت عاقراً فجعلها زوجها خادمة لوالديه فراح والده يضاجعها حتى ضربته بعصاه ذات مرة فمات … و انتهى بها الأمر كعاهرة .
تنحصر بطولة الفيلم بين إثنين ، هما : المرأة الشابة ( لعبت دورها الممثلة الإيرانية الجميلة " گــُـلشفته فرحاني " الحاصلة على العديد من الجوائز ، و هي تعيش في فرنسا ) و الرجل الممدد على الأرض في غرفة بائسة طوال الفيلم دون أن ينطق بكلمة ، و لا إسم له ( لعب دوره " حميد جوادان " ) . و هذا التمدد يذكرنا بشخصية " آل ماشي " في فيلم ( المريض الإنگليزي ) الذي لعب دوره الممثل " رالف فاينس " . مع إختلاف طبيعة رقود الإثنين ، فرقود " آل ماشي " كان فاتحَ باب ذكرياتٍ مهمة في تاريخ الحرب العالمية الثانية في الصحراء الليبية و خبايا الجاسوسية ( في الرواية … أكثر منها في الفيلم ) ، فيما كان دور الرجل ( الزوج ) في المساحة الأفغانية سلبياً . هذه المرة كان هو نفسه كيساً لتفرغ المرأةُ نفاياتِ ذكرياتها البائسة فيه و هي تشهر أمامه حقيقة أنه هو الذي كان عاقراً ، و أن أمه الجاهلة الغافلة أخذتها الى ( حكيم ) استغفل الأم و أدخل الزوجة في غرفة مظلمة ليضاجعها شاب قوي ، ولكنه قليل الخبرة ، لتنجب منه الإبنة البكر التي توهمت أم الزوج أنها من إبنها ، وكذا توهم الزوج بخصوص الإبنة الثانية أيضاً .
هذه إنثيالات ، تدفقت في هيئة اعترافات باطنية ، في هيئة تداعيات نفسية ، أفرغت الزوجة الشابة كل كيسها منها ، كيسها الذي امتلأ عبر الأيام و السنين في غفلة منها … حتى وجدت نفسها على حافة اليأس من حياة بلا معنىً ، و قد تحكّمت بها عقدة ( الشرف ) ، حتى أقدمت على وضع نهاية لهذا العبث الوجودي حين استيقظ الزوج من غفلته ، إستيقظ لا لشيء سوى للدفاع عن ( شرفه ) في خضم الغفلة .
الرواية ، و من ثم الفيلم ، فضحٌ و تعنيفٌ للرجل الأفغاني عموماً ، و هو كشف لحال المرأة الأفغانية ، عموماً أيضاً . و سنجد أنفسنا أمام إشكالية إجتماعية و نفسية تتحكم بالمجتمع الأفغاني ، و هذه ليست المرة الأولى التي يتصدى فيها الأدباء و الفنانون الأفغان لهذه الإشكالية ، ولكن " عتيق رحيمي " تناولها ، في روايته و من ثم في فيلمه ، بطريقة متميزة و متفردة .
يهدي " رحيمي " روايته الى الشاعرة الأفغانية " ناديا أنجُمان " التي قتلها زوجها " فريد أحمد جيدميا " عام 2005 ، بسبب خلاف عائلي ، ولكن جذر هذا ( الخلاف العائلي ) يعود في حقيقته الى كون الشاعرة ، البالغة الخامسة و العشرين من عمرها و المتخرجة من كلية آداب جامعة هيرات الأفغانية ، قد أصابت شهرة أدبية واسعة في أفغانستان و إيران بعد أن أصدرت مجموعتها الشعرية الأولى المتميزة ( الوردة الأرجوانية ) فحظيت بإهتمام واسع من قبل وسائل الإعلام المقروءة و المسموعة و المرئية ، ما أثار حفيظة الزوج الذي يُفترض به أن يكون متفهماً للأمر ، كونه يحمل شهادة من كلية الآداب و يشغل منصباً إدارياً فيها ، ولكن سلطته الذكورية تغلبت على شهادته و منصبه المدني فقتل الشاعرة الأنثى . فكانت تلك فضيحة مدوية للمجتمع الذكوري الأفغاني الذي يُعتبر أشد المجتمعات شراسة تجاه المرأة في العالم . فصحيحٌ أن حكم طالبان كان قد سقط منذ عام 2002 إلا أن سمومه الذكورية المستندة إلى أحكام الدين مازالت تسري في نسيج المجتمع الذكوري في أفغانستان .
عنوان الرواية ، و من ثم الفيلم ، مُستقى من أسطورة أفغانية فارسية تفيد بأن ( حجر الصبر ) هو الحجر الأصم الذي تحكي له المرأةُ الكـَـتومُ الصَبورُ كل يوم ، و كل ساعة ، عمّا تحمله من أسرار و آلام … حتى تأتي اللحظة التي ينفجر فيها ذلك الحجر و يتفتت ( تقابله في الثقافة الشعبية العراقية " دمية الصبر " التي تنتفخ مع كل حكاية حتى تنفجر ) . و الحجر ــ كما رأينا في الفيلم ــ هو الزوج الذي أوصلته الزوجة ، ببوحها ، إلى ذروة اللاتحمُّل … ليخرج عن جموده الحجري . و سنجد أن الزوج الذي كان غائباً عن وجوده الإنساني إنما كان حاضراً في الفيلم كحجر ، و كان الممثل " جواديان " فاعلاً في دوره ، رغم جموده و صمته المطبق طوال الفيلم الذي استغرق ساعة و 36 دقيقة . كما سنجد أن اختزال الديكور في الفيلم الذي اقتصر حَيّـزُهُ على غرفتين بائستين و ركن ضيق مستور بستارة خضراء رخيصة ، إنما أغنى الفيلم بحضور طاغٍ للمضمون و هو يزيح الشكل الزائف في أفلام زائفة و بميزانيات عالية . ما يعني أن المخرج " عتيق رحيمي " كان يدرك ماذا أراد أن يقول … و كيف قال ، ببلاغة سينمائية عالية و مختزلة . و قد صُورت المشاهد الخارجية في أفغانستان و في أحياء مغربية شبيهة بالأحياء الأفغانية في زمن طالبان .
حال المرأة ، في هذا الفيلم ، لا يمثل توقها الى تكريس هويتها الإجتماعية المسحوقة في أفغانستان حسب ، بل كذلك شوقها الى اللذة الجنسية التي يبدو أنها لم تصل اليها بسبب الأنانية الذكورية التي لا تتعامل مع المرأة كأنثى ذات مدركات إنسانية وجودية بل ككيس للتفريغ اللذيذ للمَني … كسُمٍّ ( شيطاني ) . هكذا أرادت أن تقول المرأة في الفيلم في بوحها لزوجها / الحجر . ، لذلك فإن " رحيمي " يستهل روايته بقول الشاعر و المسرحي الفرنسي " أنتونين آرتو " ( 1896 ــ 1948 ) : ( من الجسد و بالجسد و مع الجسد منذ الجسد و حتى الجسد ) .
بعد هذا ، لن يجد المُشاهدُ غرابة في تعنيف ( المجاهد ) الطالباني لها حين يسألها عن سبيلها في كسب رزقها فتجيبه بأنها تبيع جسدها ، ولكنها لم تكن كذلك ، إنما أجابته هكذا لعلمها أن ذكورية هؤلاء المجاهدين الأفغان مخدوشة مع غير العذراوات . كما أن المشاهد سوف لن يجد غرابة في رد فعل الأنثى على هذه الذكورية البائسة حين تستجيب للفورة الجنسية لدى ( المجاهد ) الشاب ، فتستجيب لفيضِ ماء أنوثتها هي … و ليذهب الدينُ و المجتمعُ و القـِـيَمُ الى الجحيم .
عندما نقرأ تاريخ أفغانستان ، نجد أن المجتمع الأفغاني يشبه تضاريس بلاده ، التي هي أعقد التضاريس في كل جغرافيا العالم ، في بقعة شهدت أعقد المشاكل العرقية و الحربية و الإجتماعية و السياسية و العقائدية في تاريخ آسيا ، منذ أن كانت جزءاً من الإمبراطورية الفارسية مروراً بغزوها من قبل الإسكندر الأكبر
و من ثم التحاقها بركب الدولة الإسلامية فالإمبراطورية المغولية فالبريطانية ، ثم الغزو السوڤييتي لها عام 1979 ، و أخيراً سيطرة المجاهدين عليها بعد خروج السوڤييت ثم بروز طالبان حتى إسقاطهم عام 2002 ثم عودتهم مرة أخرى بعد انسحاب الجيش الأمريكي من أفغانستان عام 2021 لتعود طالبان بشراسة أشد و قد اكتسبت ما يشبه الشرعية الدولية . و تنطوي أفغانستان على تركيبة إجتماعية معقدة من منابت آسيوية مختلفة تتضارب في المعتقد و اللغة و السلوك الإجتماعي … ولكنها تتوحد في نظرتها السلبية للمرأة ، وفق معيار واحد ، من حيث النظر اليها باعتبارها وسيلة للتفريخ … ناقصة القيمة . و مقتل الشاعرة " ناديا أنجُمان " دليل على أن ثمة خطوطاً حمراء كثيرة أمام المرأة في المجتمع الأفغاني . و هذا الفيلم وضع هذا المجتمع أمام ( حجر الصبر ) . ولكن علينا أن ندرك أن فترة السبعينيات و الثمانينيات من القرن العشرين ، و التي كانت طالبات الجامعات في أفغانستان يرتدين خلالها التنورات القصيرة التى تصل الى منتصف الفخذ ، إنما كانت فترة عابرة ، و هي خارج الزمن الأفغاني ، و إن كان التطور الخفيف قد بدت ملامحه منذ الخمسينيات .
مَن لم يقرأ الرواية و يشاهد الفيلم مباشرةً سيبقى متعاطفاً مع الفيلم ، ولكنه قد يخرج بأسئلة تنطوي على غموض . أما مَن كان قد قرأ الرواية قبل مشاهدة الفيلم فسيفككه ، ليس وفقاً للرواية بل وفقاً للواقع الأفغاني الذي ستدفعه الرواية الى فهم خلفيته بحثاً عن السؤال : لماذا يحصل كل هذا في أفغانستان ؟
ملاحظة : غير رواية ( حجر الصبر ) ، ثمة روايات أخرى للكاتب المخرج "عتيق رحيمي " مترجمة الى العربية :
( أرضٌ و رماد ) ، ( ملعون دستويفسكى ) ، ( ألف منزل للرعب و الحلم ) ، ( حبٌ في المنفى ) .