elCinema.com

فيلم دينا عبدالسلام يعيد إلى الإسكندرية اسمها السينمائي، و"مستكة وريحان" 60 دقيقة من الدفء الإنساني

[ من صفحة دينا عبدالسلام ]
الإسكندرية تكسر احتكار القاهرة في إنتاج السينما
فيلم دينا عبدالسلام يعيد إلى الإسكندرية اسمها السينمائي، و"مستكة وريحان" 60 دقيقة من الدفء الإنساني
الخميس 2018/09/20
بقلم سعد القرش
من الإسكندرية أطل الأخوان لوميير على مصر، وقدما يوم الخميس 5 نوفمبر 1896 عرضا سينمائيا في بورصة طوسون، وفي الإسكندرية أيضا صورا شرائط أولى في اختراع سرعان ما اصطدم بصخرة القاهرة، فاستحوذت عليه، وضمته إلى قائمة ممتلكاتها، لتتأكد مقولة جمال حمدان عن مصر التي لها “رأس كاسح”، في إشارة إلى القاهرة، ابتلع صناعة السينما واحتكرها، من بين ما ابتلع هذا الرأس الكاسح واحتكر.

لم تنتج مدينة مصرية أخرى بخلاف القاهرة فيلما روائيا طويلا لنحو مئة عام، في انتظار رهان الروائية المخرجة دينا عبدالسلام التي أنجزت نصف عملية كسر الاحتكار بفيلم “مستكة وريحان”. وحين يعرض جماهيريا، ستنتهي أسطورة احتكار القاهرة لإنتاج مصر السينمائي.

من الإسكندرية خرجت قبل سنوات تجربة متواضعة، باشتراك ستة شبان في إخراج فيلم “أوضة الفيران” (85 دقيقة)، وفي ذلك العام 2014 قرأت رواية دينا عبدالسلام “نص هجره أبطاله”، وكادت تصرفني عن مشاهدة فيلمها الروائي القصير “ألف رحمة ونور” (2014)، فالنص مكتوب بلغة واعية تليق بالصرامة الأكاديمية، ويخلو من خدوش وثغرات بشرية تنفذ منها أخطاء وخطايا.

وبحكم هذه السيطرة على بنائه، يكاد النص يضع أبطاله في خانة واحدة، قريبا من وعي المؤلفة، أو هكذا ظننت. ولكني بدافع الحرج، لا الفضول، شاهدت فيلم “ألف رحمة ونور”، ونسفت مفاجأة الفيلم انطباعا تركته الرواية، ويكاد يكون مفارقا لعالمها وطريقة معالجتها.

سلة وشرفتان
تقيم دينا عبدالسلام في الإسكندرية، وتعمل أستاذة للغة الإنكليزية بجامعتها، وفي مدينتها أخرجت فيلم “مستكة وريحان”، وهو تقريبا أول فيلم روائي طويل ينتج خارج القاهرة. وقد حصل الفيلم على شهادة تقدير من مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة (2018)، وأشاد به المخرج الجزائري أحمد راشدي رئيس لجنة التحكيم. ويسهل نسبة الفيلم إلى سينما المؤلف؛ فالمخرجة هي المؤلفة والمونتيرة، وشاركها في الإنتاج وكتابة الحوار أشرف مهدي وهو أيضا مدير التصوير والإضاءة.

لا يعتمد الفيلم على ممثلين مشهورين، ربما بحكم طبيعة الإنتاج، وهذا من حسن حظ الفيلم البالغ 60 دقيقة من الدفء الإنساني، ويجسده تصاعد العلاقة بين جارين لا يلتقيان إلا في النهاية. ففي إحدى البنايات تقيم الحاجة مستكة (عزيزة فاضل)، وهي أرملة عجوز وحيدة تعيش في شقة بها مقتنيات قديمة: التليفون الأسود ذو القرص الدوار للأرقام، والمنبه، وجهاز الكاسيت، وأدوات تقليدية لصنع القهوة. وفي شقة أعلى يقيم الأرمل ريحان (علي درويش)، وهو أقل شعورا بالوحدة؛ لوجود القط “زعتر”، ومقتنيات تتجاوز قليلا كونها أشياء، فهي تثبيت لأزمنة تمثلها صور للواء محمد نجيب وسيد درويش وماجد ابن ريحان في طفولته. ويتواصل الرجل مع العالم عبر سلّة مصنوعة من شرائح الغاب، يدليها بحبل إلى البواب (الممثل ماجد عبدالرازق)، فيعيدها إليه عامرة بما يحتاج إليه من خضر وأدوية وإحدى الصحف، وينشغل بحل الكلمات المتقاطعة، ومخاطبة القط الذي يتقاسم معه طعاما يضع بعضا منه أمام لوحة الطفل الباكي.

“مستكة وريحان”، هو تقريبا أول فيلم روائي طويل ينتج خارج القاهرة منذ سنوات، وقد حصل على تقدير كبير

عناصر قليلة دالة على انتماء بطلي الفيلم إلى بقايا الطبقة الوسطى. ومحتويات الشقتين بسيطة، فالأثاث القديم يحتفظ بشيء من الأناقة، ويخلو المطبخ إلا من آنية وأدوات أساسية. وفي هذا الحيز المحدود والديكور المتقشف التقطت الكاميرا تفاصيل دقيقة، وعبر ستارة الشرفة، راقبت مستكة سلة ريحان، في الصعود والهبوط، فاتصلت به، وعرضت عليه الاشتراك في السلة. وتحدث مفارقات مضحكة، فريحان يتلقى اتصالا من ابنه، وأثناء المكالمة يلقي سماعة التليفون، ويترك الخط مفتوحا، لكي يطارد ذبابة بالمضرب.

أما مسكتة فتأخذ النعناع بدلا من البقدونس الذي يصعد بالخطأ إلى ريحان، وبسبب ضعف بصره يضع بعضا منه في الشاي، فتصلح مستكة الخطأ وترسل إليه طبقا من “محشي” ورق العنب، وقد أعدته لابنها سعد (الممثل محمد فؤاد) الذي انتظرته ولم يأت.

في الدقيقة 24 من الفيلم نعرف أن ريحان مسيحي، وتهديه مسكتة مفرش مائدة طرزته بيديها، وتنصحه بطريقة سهلة للتخلص من الذباب الذي يزعجه، كما تزعجه مراقبة البواب خفيف الروح لجولات السلة بين الشرفتين. وتزعجه مستكة أيضا حين تفاجئه بصنع كسوة حمراء للسلة، فيتردد في إسقاطها إلى البواب؛ لأن اللون الأحمر “حاجة تكسف”، ولا يناسب وقار شيخوخته. ويقترح عليها نقل جولات السلة الداخلية إلى المنور الخلفي، بدلا من الشارع، تفاديا لانتقادات يراها في عيني البواب.

حس إنساني
بين عجوزين لا يربطهما إلا سلة وتليفون تحدث لعبة القط والفأر، ويقع ما يعكر الصفو، فالملوخية آلمت ريحان، وأرسل في طلب علاج، ووجه اللوم إلى مسكتة على وضع الكثير من الثوم، وهي تؤكد في غضب أنها لم تضع إلا فصّين اثنين من الثوم، وتتهم معدته بنسيان تناول الطبيخ، وفي نوبة الغضب تبلغه أن الولاعة التي أرسلها لا تشعل فرن البوتاجاز. ثم ترفض الرد على اتصالاته، ويزورها ابنها فتنشغل عن ريحان الذي يواصل الاتصال، وفي استعادة لروح المراهقة المرحة الخجول تشعر بالحرج من ابنها، وتمنعه من الرد.

في المشهد قبل الأخير يغادر ريحان شقته، للمرة الأولى، ويرجع حاملا بطيخة، ويمر بمستكة لتشاركه في تناول البطيخة مع الإفطار، وعلى المائدة تنهاه عن استخدام كرسي زوجها “المرحوم”، ويحلو لريحان أن يحكي لها عن القطط وهو صغير، فتسأله: وهل كنا صغارا؟ ويضحكان. ويرجوها أن تعتني بالقط بعد موته، فتتمنى له طول العمر. ثم يهبطان الشارع لصرف المعاش، في المشهد الأخير الذي ينتهي بنظرات البواب الذي لا يكف عن إبداء الدهشة.

فيلم “مستكة وريحان” مكتوب بحس إنساني تتوارى معه الصنعة، وتحضر تلقائية تضع المشاهد على مسافة ليراقب متعجبا مثل البواب، أو تورطه عفوية الأداء التمثيلي والسرد فيجد نفسه في إحدى الشقتين، من دون أدنى شفقة على بطلي فيلم لا ينزع إلى الميلودراما، وإنما يتغنى بالحياة حتى آخر رمق.