elCinema.com

المسرح التونسي بين الامس واليوم

[ من صفحة منصف مراد ]
كان المسرح في تونس يعتبر الفن الراقي بامتياز. اتبعنا طريقة المسارح العالمية الرائدة عبر العصور، اعني موليار و شكسبير فقمنا بتمثيل نصوص باللغة العربية وتونسنا نصوصا اخرى بعد اقتباسها عن مجموعة من الكتاب العالميين وكان النجاح حليفنا بالرغم من الصعوبات والعقبات التي كانت تعترض طريقنا.
لم نجر يوما وراء الشهرة والمال وقدمنا خدماتنا من اجل الثقافة ومن اجل مسرح ذي قيمة ثابتة فكان نجاحنا انذاك سببا في ظهورنا في التلفزة فقد قمنا بعديد الاعمال التي كللت بالنجاح والحمد لله وما كنا لنعلم بان البعض من اعمالنا تلك ستبقى في الذاكرة لسنين طويلة. فلناخذ مثلا مسرحية ورثوني وعيني حية والمعروفة ايضا ب يلعن بو ها الدوخة وهي من اقتباس المرحوم عامر التونسي واخراج المرحوم امحمد الاكحل الذي تقاسمت فيها البطولة معه . قدمناها في التلفزة الوطنية في اوائل السبعينات ايام كان البث مباشرا وبالابيض والاسود ثم تم تسجيلها بالابيض والاسود ايضا في اخراج تلفزي للمرحوم عبد الرزاق الحمامي. ومرت السنين …
تلك واحدة من المسرحيات التي بقيت راسخة في ذاكرة المتلقي لم تقدر قوة الايام على محوها حتى انها ادرجت من جملة الاعمال الخالدة ويعاد بثها بين الحين والاخر.
قلت لم نجر وراء الشهرة ولم ننتظرها وتمادينا في عملنا طيلة ما يزيد عن الستين سنة.ستون سنة من التجارب والعطاء افضت الى اكتشاف ان سيطنا قد ذاع في كافة ارجاء العالم العربي، فقد دخلنا التاريخ من بابه الاوسع ووجدنا اسماءنا قد نقشت بحروف من ذهب في صفحاته، فسلسلة ضيعة محروس التي تقاسمت فيها البطولة مع المرحوم الحبيب بن ذياب وقمت فيها بالمراجعة اللغوية بمعية الاستاذ عبد العزيز صميدة كما قمت بكتابة جل قصائدها بمشاركة شاعر تونس الاستاذ الحبيب الاسود هي سلسلة غزت العالم العربي من المحيط الى الخليج وتداولتها جميع القنوات التلفزية العربية بدون اي استثناء ونالت اعجاب مئات الملايين من المشاهدين. سلسلة تم تسجيلها سنة 1995 وهي تبث الى يومنا هذا ومنذ ما يقارب ربع قرن. فمن شاهدها طفلا صار شابا ومن شاهدها شابا صار كهلا ومن شاهدها كهلا صار شيخا وهي لاتزال تبث وتبث وتبث…اعمال قد رسخت في ذاكرة الملايين ولا سبيل لفسخها منها … ترى، ماهو سبب هذا النجاح المنقطع النظير بينما نرى اغلب الاعمال التي يقع انتاجها في ايامنا هذه تبوء بالفشل ابان ظهورها او بعده بقليل؟
اليكم الاجابة …
في سنة 1994 لما عدت الى ارض الوطن بغد غياب دام تسع سنوات في المهجر لاحظت ان هناك عملا تخريبيا ممنهجا يتمثل في ضرب الثقافة والتعليم في تونس.لم اكد اصدق نفسي انذاك حتى تبين لي فيما بعد كل شيء جليا وظهر نصب اعيني بالدليل القاطع والبرهان.فبعد ضرب هذين الميدانين ضعفت وتراجعت قوى المبدعين فولوا خطى كبيرة الى الوراء مما جعل البعض من اشباه المثقفين يركبون على الحدث ويحاولون ان يعوضوا اولئك المبدعين ولكن هيهات، فاقد الشيء لا يعطيه فالتجؤوا الى طريقة اسمها " خالف تعرف" وانشؤوا شيئا غريبا اطلقوا عليه اسم “المسرح الحديث” اعتمدوا فيه كل وسائل الجهل والتجهيل فقضوا على كل ما هو “ديكور” وعوضوه بما هو افتراضي يتمثل غالبا في كرسي واما الماكياج فقد تغير ليكون نوعا من الطلاء الملون على وجه الممثل حتى يصبح شبيها بكل شيء الا ان يكون وجه انسان من خلق الرحمان حتى الدقات المميزة لرفع الستار قد الغوها كذلك الشان بالنسبة للستار نفسه . واما النص فحدث ولا حرج فالمهم في ذلك هو رسم ابتسامة بائسة على وجه يائس لا يفقهها الا ذو حماقة او عقل محدود جدا.
وهكذا انحط مستوى النص لينزل الى الرداءة ثم الى الدناءة وصولا الى موضة الالفاظ السوقية والتلاعب بالالفاظ لتكون النتيجة انحلالا في الاخلاق.
اوصيكم خيرا بهذا الفن النبيل او دعوني اقول بهذا العلم النبيل فما دامت الفنون الدرامية تدرس في الجامعات فهي علم من العلوم وما من شك في ان كل علم له قواعده واسسه بدءا باللغة العربية التي هي اساس في الاعمال الدرامية الموزعة في وطننا العربي الواسع، اذ انه هناك من يقول : دع عنك قواعد النحو والصرف فالمهم هو تبليغ المعلومة. خطا فادح واليكم هذا المثل حتى تعرفوا ان الشكل بعكس ما تفرضه القواعد اللغوية يغير تماما معنى المعلومة : فلو قرانا هذه الجملة بهذا الشكل
لقد اكل الجزرَ كبيرُ الارانب : فالمعنى هنا واضح
اما اذا رفعنا المفعول به ونصبنا الفاعل لتصبح
لقد اكل الجزرُ كبيرَ الارانب : فعوا كيف تغيرت المعلومة بالرغم من اني لم اغير حرفا واحدا في الجملة .
وما هذا الا قطرة من بحر ونستنتج اذا انه لابد من تطبيق قواعد اللغة العربية باكملها اذا ما استعملناها.
كذلك هو الشان بالنسبة للقواعد الاخرى التي لا تقل اهمية عن سابقتها في اللغة والتي لا بد من تطبيقها كما يجب، مثل التعبير بالحركات البدنية فاليدان لهما تعبير مختلف حسب كل حركة كذلك الرجلان واصابع اليدين والراس والعينان والشفتان والفم دون ان ننسى التعبير بالنبرات الصوتية وغيرها من مستلزمات الاداء السليم.
فحتى يكون العمل ناجحا لا بد ان يكون صحيحا وهادفا يحترم فيه المشاهد ايما احترام ومتكاملا وخاضعا لجميع القواعد دون استثناء.
لا تستسهلوا هذا الفن فمن ينزل الى البحر دون دراية بالسباحة … يغرق
اكودة في 26 نوفمبر 2017
ابن اكودة، المنصف مراد