[ من صفحة أخضر يابس ]
إذا كان يسري نصر الله قد أعاد السينما المصرية إلى مسابقة مهرجان لوكارنو السينمائي الدولية بعد انقطاع دام 17 سنة، فإن التاريخ سيذكر أن محمد حمّاد هو أول مخرج يُدخل الأفلام المصرية لمسابقة صناع سينما الحاضر المخصصة للأعمال الأولى والثانية لمخرجيها، وهي المسابقة الأكثر شباباً وميلاً للتجريب بين مسابقات المهرجان العريق.
فيلم “أخضر يابس” هو بالفعل أفضل تعبير عن سينما الحاضر، عن السينما الشابة التي لا تلزم نفسها بالقيود الكلاسيكية للصناعة، بل تستخدم إمكانيات العصر التقنية ليعبر المبدع من خلالها عن نفسه. قيام حمّاد ومعه شريكا رحلته خلود سعد ومحمد الشرقاوي بتمويل فيلمهم ذاتياً، وتصويره بكاميرات خفيفة وباستخدام ممثلين معظمهم يقف أمام الكاميرا للمرة الأولى، هو خريطة عمل لسينما الحاضر الفعلي، حاضر كل من يريد التغيير حقاً لا من يقضي الوقت حالماً بأني تأتي له الفرصة على طبق من ذهب.
فيلم أخضر يابس
غير أن الحديث عن الفيلم من هذه الزاوية فقط هو في الواقع حديث مجحف، يبخس العمل الفني قدره ويكتفي بالإشادة بكيفية تنفيذه دون الانتباه للأهم وهو الفيلم ذاته، فكم من فيلم صُنع بشكل مستقل فخرج عملاً ركيكاً. لذا فإنجاز محمد حمّاد الفعلي ليس تمكنه من صناعة فيلم بهذه الطريقة، وإنما نجاحه في استغلال الطريقة لصناعة فيلم ذكي وناضج، مشغول بهدوء ورويّة تنسج التفاصيل والوقائع رؤية إنسانية واجتماعية ممتعة على قتامتها.
تأسيس العالم المحيط وقيوده
أول الخيارات الحاذقة في “أخضر يابس” هو اختيار المستوى الاجتماعي للشخصيات، وبالتحديد لبطلتي الحكاية الشقيقتين. إيمان ونهى (هبة علي وأسماء فوزي) ابنتان مخلصتان للطبقة الوسطى، لا تعيشان في بيت حقير ولا تعانين من أزمة مالية خانقة، مسكنهما شقة قديمة واسعة هي بالطبع شقة والديهما الراحلين، وعمل إيمان يكفي لتوفير الحاجات الأساسية للحياة ولتعليم نهى. قد لا يكون لديهما المال الكافي لتجديد المنزل أو لشراء فستان أنيق، لكنهما تمتلكان القدر المناسب للبقاء. أمر نكتشف لاحقاً أنه ليست جيداً كما يبدو للوهلة الأولى.
الحاجة تُخلص الإنسان من قيوده، فمن يتضوّر جوعاً سيصل نقطة يتخلص فيها من عوائق الكرامة والاستقامة فإما أن يتسول أو أن يسرق، ووقتها قد يعذره البعض أو على الأقل سيشعر أمامه نفسه أنه كان مُجبراً. أما من يعيش على حد الكفاف مثل إيمان فمصيبته أكبر، عليه أن يعمل بجد وإخلاص كي يظل طيلة حياته في نفس النقطة، يحافظ على صورته في أعين لن تغفر له أي ذلة، لا يحلم بمستقبل أفضل أو حتى بتغيير للواقع الصعب، بل يصير أقصى طموحه هو أن يبقى مكانه في ظل عالم يتداعي وحياة تصير أصعب في كل يوم.
فيلم أخضر يابس
مشكلة إيمان ونهى ليست مادية بالأساس. بالطبع لو كان لديهما المزيد من المال كانت حياتهما لتكون أبهج، لكن المأزق الحقيقي هو أنه حتى الحفاظ على الوضع الراهن ـ الذي يصعب وصفه بالسعيد ـ يتضح أنه ليس أمراً ممكناً، وذلك بظهور غول اسمه التداعي.
عن عالم وأجسام تتآكل
لو أردنا تحديد تيمة “أخضر يابس” في كلمة واحدة فستكون هي التداعي. هذا فيلم عن عالم يتداعى، كل ما في حياة إيمان يتآكل: جدران منزلها لم تعد قادرة لاحتمال ولو مسمار يُدَق في حوائطها، جسدها بدأ في الشكوى دون أن يدخل ولو تجربة تبهجه، ثلاجة محل الحلويات الذي تعمل فيه انتهى عمرها الافتراضي وغدا تصليحها بلا طائل، وحتى مترو مصر الجديدة الذي تركبه لقضاء كل مشاويرها نعلم جيداً أنه هو الآخر قد أصبح تاريخاً تخلصت منه الحكومة (وهي تفصيلة لن يفهمها سوى المشاهد المصري).
هذا إذن هو جوهر الحكاية، الانهيار التدريجي لعالم إيمان ، والذي يناظر في مستوى تأويل آخر تآكل الطبقة الوسطى التي تمثلها الفتاتان، الطبقة التي وجدت ما يرتبط بوجودها نظرياً من شعور بالأمان المجتمعي يكاد ينتهي، حتى صار الانتماء لتلك الطبقة يعني التنازل عن فرص السعادة واحدة تلو الأخرى، لكن دون التخلص من عبء ميراث من وصاية أخلاقية بليدة يمارسها العالم على كل من يفترض أنهم (بنات ناس)، حتى أنه يتوجب على إيمان أن تتنقل بين أعمامها تستجدي وجود أحدهم خلال خطبة اختها (التي ترعاها وتنفق عليها كما لو كانت ابنتها)، لأن المجتمع لن يقبل من أسرة محترمة أن تُخطب فتاة دون وجود رجل، بينما لا يجد المجتمع أي غضاضة في أن يكون الرجال مجرد متنطعين يهربون من تحمل حتى المسؤولية الأدبية لبنات العائلة المزعومة!
رخم روائي وبلاغة سينمائية
ما سبق زخم يكاد يكون روائي الطابع، فقد اعتدنا أن تنتمي الشخصيات المماثلة لإيمان إلى عالم الأدب، بما تحمل من تعقيدات وتناقضات نفسية واجتماعية وعاطفية على مستوى الحكاية، وبما تعبر عنه من تشريح لطبقة اجتماعية على المستوى الرمزي. لكن ما يتمكن محمد حماد من تحقيقه في “أخضر يابس” هو التعبير عن هذا الزخم بلغة لا تنتمي إلا لفن السينما، لغة مقتصدة لا تسرف في الحوار أو اللقطات ولا تتعجل الإفصاح عما تحمله من معان.
وبالرغم من أن الدقائق الأولى التي تكتشف فيها إيمان احتمال إصابتها بمرض خطير تُنذر بفيلم ميلودرامي معتاد، إلا أننا نكتشف سريعاً إنها مجرد لعبة من ألعاب براعة الاستهلال لجذب انتباه المشاهد من البداية، ليسير الفيلم بعدها في طريقه بتأنٍ وانضباط، دون أن ينجرف ولو مرة ناحية الابتزاز العاطفي أو المبالغة في قيمة الأحداث درامياً، بل يبقى كل حدث على حدة محتفظاً بحجمه الواقعي: حدث صغير يُحدث ألماً كبيراً في نفس فتاة لم تعد قادرة على تحمل المزيد من الضربات.
هذا التناقض بين حجم الحدث وأثره تكاد تصرخ به كاميرا محمد الشرقاوي، التي لا تستقر للحظة فهي طيلة الفيلم محمولة مهتزة، لكنها بالتزامن تأخذ الوقت الكافي لنقل مشاعر الممثلين في لقطات كبيرة وممتدة، وكأنها تقطع رحلة داخل البشر وخاصةً إيمان، التي يكاد داخلها يمور بينما ينبغي على ظاهرها أن يبقى متماسكاً منضبطاً، لأن العالم لن يقبل منها أي تصرف آخر، ولن يجد لها عذراً في أي شطط يكاد الجميع يؤمنون أنها لا تملك ولو سبباً واحداً له!
اختيار “أخضر يابس” لمسابقة تُدعى سينما الحاضر هو اختيار دقيق ذو دلالة، فلا يوجد أفضل من فيلم محمد حمّاد للتعبير عن الحاضر بكل مستوياته، عن آليات الإنتاج المتوافرة فيه لمن يريد التعبير عن نفسه، عن أزمات جيل وطبقة يشرّحها الفيلم باقتدار، وقبل هذا وذاك عن كيفية صياغة ما سبق في شكل سينمائي معاصر بعيداً عن الميلودراما واستجداء التجارية.