[ من صفحة حرب كرموز ]
حرب كرموز - وانعدام اللغة
حينما يقرر السيد/ محمد السبكي أن تكون قصتَه كان لا بد وأن يدفع مقابل أن تصبح ناجحة، فزاد من تكاليف فيلمه أعباءً لو كان لديه قدر ضئيل من الموهبة -في التأليف- لما تكلف كل هذا، في فيلم من إنتاجه وإخراج بيتر ميمي، “حرب كرموز” أحد أفلام موسم عيد الفطر لهذا العام، يحكي قصةً -أزعُم أنها مكررة- وهي محاصرَة قوات الاحتلال البريطاني لقسم شرطة كرموز لتحرير أحد جنودها المتهم باغتصاب فتاة والانتقام مِن مَن قتلوا زميلَه، الصدفة تجمع أبطال الفيلم في القسم قبل هذا الحصار ليستمروا بين جدرانه في تداعي لحرب ضروس غير متكافئة بين الطرفين.
معالجة السيناريو لبيتر ميمي رمتنا بصدف مفتعلة وحوار متشظي لإعطاء مبررات درامية واهية لما يحدث أمامنا على الشاشة، في توليفة من الشخصيات النمطية التي اعتدنا أن تجتمع في مثل هذه الظروف، ضابط الشرطة البطل كالعادة في تأكيد لما زاد طرحه من موضوعات في السنوات الأخيرة وفي محاولات جاهدة لتجميل هذا الجهاز الحيوي في الدولة من خلال السلطة الناعمة جداً لدرجة أن يقوم بالدور أمير كرارة، الخيّر المعتقل لتمرده على قرارات خاطئة في قيادته العسكرية محمود حميدة، فتاة الليل الطيبة غادة عبد الرازق، السارق المتمرس على تسلق مواسير الصرف مصطفى خاطر، والعديد من ضيوف الشرف كأحمد السقا أحد قادة الداخلية، وفتحي عبد الوهاب كضابط زميل لأمير كرارة، ومحمود البزاوي مذيع في إذاعة غريبة جداً على هذا الزمن المطروح، وبيومي فؤاد نائب البرلمان الموالي للانجليز التائب عن هذه الموالاة حين تُحرجه مصريتُه، أسماء يكفي كل منها أن يقوم منفرداً ببطولة عملٍ ، ما جمعها سوى محاولة أن يكون الإنتاج ضخما وتتحاكى عنه الجماهير، سيقت إلينا بصورتها النمطية وكأننا نراها للمرة الألف، ناهيك عن الضابط المجنون البريطاني والذي جسد دوره الممثل الأمريكي سكوت أدكنز والذي أتى بما لم يأت به الأوائل؛ استعراض لمهاراته القتالية أمام كرارة. وشخصيات أخرى يتم التركيز عليها بالكاميرا تُشعرنا أن هناك دوراً هاماً لها فيما بعد ثم لا يأتي هذا الدور وطفرات أخرى للأدوار الأساسية دون مقدمات تمهيدية تبرر هذا التطور في الشخصية.
السرد أيضاً أتى نمطياً للغاية من خلال راوي عليم وفي تصاعد خطي أرسطي، فبعيداً عن نمطية الشخصيات هناك نمطية في كل الدَفَعَات والتحولات الدرامية في الفيلم تجعل المُشاهد يتوقع كل مشهد قبل حدوثه، والحدث في المشهد مجرد مقدمة لمجموعة من مشاهد الحرب أوالحركة أوالمطاردات والتي أتت جيدة جداً من الناحية الإنتاجية، فأصبحت الدراما مجرد إيجاد سبب لحدوث معركة من أي نوع أو مطاردة يمكن لطاقم العمل استخدام قوى انتاجية جديدة في سوق السينما المصري.
المنظر المكون من صورة وديكور وملابس وإكسسوار ومؤثرات كان مثيرا للتساؤل إن كان طاقم العمل قام بالبحث عن الفترة التاريخية التي تدور فيها الأحداث؟ ببساطة نحن بين انتهاء موقعة العلمين وقبل إلغاء قانون الدعارة كما ذُكرَ في الحوار، أي من 1942 إلى 1948، نحن نقع في هذه السنوات الست، فكان من السهل زيارة متحف الشرطة لمعرفة أن جنود الداخلية في هذا الوقت يرتدون بنطالاً أبيض وخوذة بيضاء فطوال أحداث الفيلم لم يظهر عسكري مصري يرتدي خوذته والكل يرتدي بنطالا أسود، حتى أغاني الراديو كانت بلا هوية تاريخية فكانت لعبد الوهاب أغنية - “يا ناسية وعدي” سنة 1939- ولسيد درويش أغنية ولأم كلثوم أغنية لترقص على نغماتهن غادة عبد الرازق، في استسهال واضح في اختيار المؤثر الصوتي، ناهيك عن ظهور محمود البزاوي كأنه في استوديو الإذاعة الحكومية يلقي بيانا بدأه بهنا القاهرة في إشارة لأنها الإذاعة الحكومية، البيان صدر للتو من الحاكم العسكري مكتوبٌ بخط اليد وليس على يد خطاط وعليه الخاتم الملكي وهو ما لا يعطي اعتباراً لسرعة التكنولوجيا وقتها، وأيضاً قسم الشرطة الذي يستقبل المكالمات التليفونية من كل الجهات حتى دكان البقالة المقابل له ولا يستطيع أن يرسل إشارات حتى أو مكالمات للاستغاثة أو للتفاوض أو لنقل أخباركانت محركاً رئيسياً للأحداث.
أتى الديكور بنصيبه في هذه العشوائية حين قرر استهلاك مواقع مدينة الإنتاج الإعلامي دونما المساس بها، فالمبنى كما هو منذ عُرض في 1997 بمسلسل “زيزينا”، وللأسف ما يفضح الأمر هو الإنتاج القوي الذي أتاح كاميرات تطير بزوايا واسعة وبحجم يتيح رؤية المباني كاملة وعلاقاتها المعمارية بما حولها واتساع الشوارع حول المبنى مما ينفي إمكانية حركات قام بها مصطفى خاطر في هروبه من القسم والرجوع إليه، كما أن المناظر الداخلية انعدمت فيها هي الأخرى هذه الهوية، كاتفاق ضمني بين كل أفراد العمل على ألا نوضح أين نحن وفي أي فترة، فلا جماليات في في تكوين الإطار السينمائي إلا بتكوين الممثلين وحركاتهم وحركة الكاميرا.
والأخيرة هذه هي ما جعلتني أصدق أن ما يتيحه الظرف يجب علينا استغلاله، كل تكنولوجيا التصوير استخدمت في الفيلم بشكل محترف دون سبب درامي أو سينمائي لدى المخرج، فلا أسلوبية في استخدام العدسات والكاميرات وحركتها، ولا داعي لأن تكون الإضاءة هي الأخرى منطقية، يجب فقط أن يكون مبهراً.
في النهاية خرجت من قاعة العرض دون أن يعلق بذاكرتي جملة موسيقية واضحة أو ماكياج مؤثر لمن حوصر يومين في مكان بلا ماء، أو تكرارية تؤكد أسلوبية ما للعمل، فكل هذه المغالطات أو لنقل عدم الاجتهاد واستسهال تقديم ما يتاح في ذاكرة الشخص العادي غير المتخصص، صبغ الفيلم بكل عناصره بانعدام هوية فنية نابعة من انعدام اللغة السينمائية للمخرج بيتر ميمي في فيلمه الثامن، هذا الترهل زعزع التصديق والتعاطف والتعايش، فالمشاهد بعيد كل البعد عن ما يدور أمامه ولكنه منبهر بحجم المعارك والانتاج الضخم. منقول من الاستاذ المحترم IBRAHIM GHAREIB